الجفاء بين الدعاة: أزمة داخل الصف الدعوي
في الوقت الذي يواجه فيه العالم الإسلامي تحديات متزايدة تتعلق بالتغريب، والانحلال القيمي، وانصراف الشباب عن منابع الهداية، يُفترض أن يكون الدعاة هم الحصن المنيع، والسند المتماسك الذي يستند إليه المجتمع في تثبيت القيم، وتجديد الرسالة، وتعزيز اليقظة الإيمانية. إلا أن المتأمل في المشهد الدعوي يلحظ ظاهرة مقلقة بدأت تتنامى وتطفو على السطح: إنها ظاهرة الجفاء بين الدعاة، والتي باتت تؤرق المهتمين بالشأن الديني والدعوي، وتضعف ثقة الناس في المرجعيات التي يُفترض أن تكون قدوة في المحبة والتسامح والتآلف.
هذا المقال يُسلط الضوء على هذا الجفاء، ملامحه، أسبابه، آثاره، ثم يستعرض المعالجات الممكنة لتجاوز هذه الأزمة الخطيرة.
أولاً: ملامح الجفاء بين الدعاة
يتخذ الجفاء بين الدعاة أشكالاً متعددة، تتفاوت حدتها بين الخصام العلني، والإعراض الخفي، والتنافس غير الشريف، والقدح في النيات، والمجاهرة بالتخطئة والاتهام، مروراً بالتشهير المبطن على المنابر، أو التلميحات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وقد يُترجم الجفاء إلى امتناع عن التعاون في المشاريع الدعوية، أو التراجع عن إسناد الأعمال لبعضهم البعض، أو تجاهل إنجازات الآخرين، بل وتثبيط المتابعين من الاستفادة من طرحهم أو الانضمام إلى مبادراتهم، تحت غطاء “الغيرة على المنهج”، أو “التحذير من الانحرافات”.
ثانياً: الأسباب الكامنة وراء الجفاء
رغم الطابع الروحي والخلقي الذي يُفترض أن يحكم علاقة الدعاة بعضهم ببعض، إلا أن الواقع يكشف أن النفس البشرية، بضعفها وتنافسها وحبها للظهور، تتسلل إلى العلاقات الدعوية، فتُفسد جمالها. ومن أبرز الأسباب التي تسهم في هذا الجفاء:
1. التحزبات الفكرية والمنهجية
انقسام الدعاة إلى تيارات ومدارس ومناهج مختلفة ـ سواء عقدية أو فكرية أو حركية ـ أدى إلى التباعد بين النفوس، والانشغال بالنقد المتبادل بدل التركيز على الأهداف الجامعة. فصار بعضهم يرى الآخر خارج إطار “المنهج الحق”، فيُقابله بالبرود وربما بالعداء.
2. الغيرة والحسد المهني
حين يحقق أحد الدعاة نجاحاً لافتاً أو يتصدر الساحة الدعوية، يُصاب بعض زملائه بنوع من الغيرة السلبية، فيحاولون التقليل من شأنه، أو تشويه سمعته، أو عرقلة مسيرته. وهي آفة مهلكة، تنخر في الجسد الدعوي من الداخل.
3. سوء الظن وتضخيم الخلافات
غالباً ما تُفسر مواقف الدعاة بعضهم من بعض على أسوأ محمل، وتُحمّل الأقوال ما لا تحتمل. فينشأ الجفاء على أوهام وسوء فهم، يُضخم دون وجود تواصل مباشر لتوضيح اللبس.
4. ضعف التربية الروحية والإيمانية
رغم أن كثيراً من الدعاة يتقنون الحديث عن تزكية النفس، إلا أن تطبيق ذلك عملياً في أنفسهم قد لا يكون متناسباً مع ما يطرحونه. فالتواضع، وحسن الظن، والصدر الرحب، والتجرد لله، كلها قيم تتراجع عند بعضهم، مما يجعلهم أسرى لأهوائهم.
5. غياب المؤسسات الدعوية الجامعة
حين يغيب الإطار المؤسسي الذي يجمع الدعاة ويوحد جهودهم، يبرز العمل الفردي، ويتحول كل داعية إلى “جزيرة مستقلة”، مما يعزز الشعور بالتنافس والانفصال، ويُضعف روح الفريق والتعاون.
ثالثاً: الآثار السلبية للجفاء بين الدعاة
إن استمرار الجفاء بين الدعاة لا يقتصر ضرره على العلاقة الشخصية بينهم، بل يمتد ليُضعف العمل الدعوي برمته، ويهز ثقة الناس في الخطاب الديني، ومن هذه الآثار:
1. تشويه صورة الدعوة
حين يرى العامة أن الدعاة أنفسهم متنافرون، يختلفون، ويتهم بعضهم بعضاً، فإن صورة الدعوة تتشوه في نظرهم، ويصابون بالحيرة: أيهم على الحق؟ وأيهم يُمثل الإسلام الصحيح؟
2. إضعاف هيبة الدين
يترسخ في أذهان البعض أن الخلاف والانقسام جزء من الدين، وأن حتى من يُفترض أنهم قادة الهداية عاجزون عن الاتفاق، مما يُفضي إلى فتور في التلقي، وانصراف عن الدين كمصدر موحد.
3. إهدار الطاقات
بدلاً من توجيه الجهود نحو البناء، والتأثير في الناس، والنهوض بالواقع، تُهدر الطاقات في معارك جانبية لا طائل منها، وتشغل الدعاة عن المهام الكبرى.
4. إحباط الشباب وتفريقهم
الشباب الذين يتطلعون إلى من يُرشدهم، حين يلمسون هذا التنازع بين قدواتهم، يصابون باليأس، ويُشتتون بين ولاءات متعارضة، وقد ينصرفون كلياً عن الساحة الدعوية.
رابعاً: الجفاء في ضوء النصوص الشرعية
الإسلام نهى عن كل ما يُفضي إلى الفرقة بين المؤمنين، فكيف إذا كان الأمر بين الدعاة الذين يحملون مشعل الهداية؟ يقول تعالى:
{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]
فالخلاف، والنزاع، والجفاء، كلها تؤدي إلى الفشل، وذهاب القوة والتأثير.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً” [رواه البخاري ومسلم].
إن التباغض، والتدابر، والتقاطع، منهي عنها شرعاً، ومذمومة على مستوى عموم المؤمنين، فكيف إذا وقعت بين النخبة التي تُفترض فيها القيادة والإصلاح؟
خامساً: معالجات عملية للجفاء بين الدعاة
لمواجهة هذه الأزمة، لا بد من جملة من التدابير الروحية والفكرية والتنظيمية، التي من شأنها التخفيف من آثار الجفاء، وبناء جسر التواصل من جديد:
1. المراجعة الذاتية والتجرد
يجب على كل داعية أن يُحاسب نفسه، ويُراجع دوافعه، ويتجرد لله، ويطلب الحق ولو كان عند غيره. فالمعركة ليست من أجل الذات، بل من أجل هداية الناس، ورفع راية الدين.
2. تفعيل اللقاءات الأخوية
لقاء الدعاة ببعضهم في جو من المحبة والتجرد يُذيب الكثير من سوء الفهم، ويكسر حدة التباعد. كما أن تبادل الزيارات، وإقامة مجالس الحوار، تساهم في بناء الثقة.
3. تعزيز الخطاب الجامع
ينبغي أن يكون خطاب الدعاة موجهاً نحو المشتركات، ومشبعاً بروح التعاون، والاحترام المتبادل، والبعد عن التسفيه أو التلميح المذموم.
4. وجود مرجعية شرعية موحدة
غياب المرجعيات الشرعية الوسطية المستقلة هو أحد أسباب الفوضى، لذلك لا بد من إنشاء هيئات علمية نزيهة تحسم الخلافات عند التنازع، وتُوجه الساحة الدعوية.
5. التركيز على التربية الإيمانية
الدعاة في حاجة دائمة إلى تربية روحية متجددة، تجردهم من نزغات النفس، وتُربّيهم على الإخلاص، والتواضع، وحسن الظن، والسعي في مصالح الأمة قبل الذات.
6. نشر ثقافة “اختلاف لا خلاف”
ينبغي ترسيخ مفهوم أن الاختلاف سنة كونية، لا تعني العداء أو الجفاء، بل يمكن للدعاة أن يختلفوا في الاجتهاد دون أن تتفتت القلوب أو تتباعد النفوس.
جدول مقارنة بين الجفاء والتآلف الدعوي
| العنصر | الجفاء الدعوي | التآلف الدعوي |
|---|---|---|
| العلاقة بين الدعاة | خصومة، إعراض، تحذير متبادل | احترام، تعاون، تواصل مستمر |
| أثره على المجتمع | تشويش، انقسام، ضعف الثقة | توحيد، طمأنينة، رفع الوعي |
| الدافع الأساسي | نفسية: غيرة، تحزب، سوء ظن | إيماني: إخلاص، طلب وحدة الصف |
| وسائله | تلميح، تجريح، نقد علني | مناصحة، دعم، لقاءات مشتركة |
| مستقبل العمل الدعوي | فتور، انقسام، إهدار طاقات | نمو، تأثير، توسيع دائرة الخير |
سادساً: وقفات تأملية
-
حين يتصارع الدعاة على الظهور والريادة، يفقدون بركة التأثير وصدق القبول.
-
الجفاء بين الدعاة لا يخدم سوى أعداء الدين الذين يفرحون بتفتت الصفوف.
-
من أعظم الجهاد أن يُجاهد الداعية نفسه في حب إخوانه وتمني الخير لهم.
-
كل دقيقة تُهدر في التنازع بين الدعاة، يُفتح بها باب للباطل ينتشر فيها في فراغ الحق.
المراجع:
-
ابن تيمية، “الفتاوى الكبرى”، دار المعرفة.
-
الغزالي، “إحياء علوم الدين”، دار الفكر.
